المجتمعات في العصر الحديث إما مفتوحة أو مغلقة، وفقاً للثقافة السائدة في المجتمع، التي لا تحدد فقط توجهات المجتمع الشعبية، بل وتحدد أيضاً السياسات العامة وصناعة القوانين اللازمة لتنظيم المجتمع. في المجتمعات المفتوحة يعيش الإنسان في ظل ثقافة مفتوحة لا تعرف حدوداً ولا قيوداً إلا في أضيق نطاق.
وحكومات هذه المجتمعات لا تحكم، بل تقوم بإدارة الدولة والمجتمع وفقاً للرأي العام، بل وتحرص كل الحرص على عدم إثارته، إلا في أضيق نطاق، لأن ثورة الرأي العام غالباً ما تسقط حكومات لمجرد حدوث فساد صغير هنا أو هناك، وما استقالة وزير الداخلية البريطاني لاتهامه بالتدخل لصالح معاملة خادمة صديقته ببعيد، وكذلك ما حدث للرئيس الأميركي نيكسون إثر فضيحة ووترجيت.
في مثل هذا المجتمع المفتوح تسود ثقافة مفتوحة لا حدود لها في كل الحريات السياسية والمدنية والفكرية، وحيث الكلمة الأخيرة للقانون الذي يضع إرادة الشعب فوق كل إرادة، والذي لا يمكنه أن يغلق أي منفذ في هذه الثقافة، إن لم يعمل على توسعة منافذها. لذلك تمارس شعوب هذه المجتمعات مدىً واسعاً من الحريات التي لا نتخيل - مجرد تخيل- احتمال وجودها في المجتمعات ذات الثقافة الضيقة. وحيث إن الكلمة الأخيرة للقانون الذي يصنعه الشعب سواء من خلال نوابه أو من خلال الرأي العام، فلا وجود لأي دور للعادات أو التقاليد أو حتى المفاهيم الدينية.
خلافاً لهذا كله نجد النقيض في المجتمعات ذات الثقافة المنغلقة، حيث الحدود والقيود والسدود للحريات السياسية والمدنية والفكرية، وحيث تسود مفاهيم التقاليد والعادات وتكون كلمة رجل الدين نافذة وفاعلة.
وفي هذه المجتمعات حرص عجيب غريب على استتباب وترسيخ هذه القيود، بل ليس من المبالغة القول إنها ترى في هذه القيود سر وجودها وبقائها. ولذلك ينتعش سوق السحر والشعوذة والجن وتفسير الأحلام وكل ما هو غيبي في هذه المجتمعات، فضلاً عن انتعاش الاستبداد السياسي ورفض الرأي الآخر وغياب فضيلتي التسامح والحوار، ومن ثم سيادة الاكتئاب والتوتر وبروز ظاهرة العنف اللفظي "ردة، تكفير... إلخ"، وشيوع ثقافة الاستبداد الاجتماعي، حيث يعشش في نفس كل شخص يعيش في هذا المجتمع ذلك "المستبد الصغير"، الزوج تجاه زوجته، والأب تجاه أولاده، والرئيس تجاه مرؤوسيه. وفي هذه المجتمعات يغيب العدل الاجتماعي، ويتضعضع العدل القانوني.
لذلك يكون التقدم والقوة والغلبة والتطور من سمات المجتمعات ذات الثقافة المفتوحة، والتخلف والضعف والهوان من سمات المجتمعات المنغلقة. وإذا ما حدث ورغب إنسان ما في الهجرة من بلده، فإنه دائماً يبحث عن الإقامة في المجتمع المفتوح، حتى ولو كان من المؤمنين بقيم المجتمع المنغلق!
والسؤال: لماذا لا تقبل المجتمعات المنغلقة الانفتاح ما دامت ترى تفوق المجتمع المفتوح؟ وأعتقد أن الإجابة تكمن في الخوف من الحرية. ولنتخيل ماذا سيحدث في المجتمع المنغلق لو رفض الشعب طاعة حكامه إلا وفقاً للقانون، ورفض الأبناء هيمنة الآباء، وتحررت النساء من سطوة الرجال، ورفض الجميع شمولية القيم الدينية... إلخ، لا أعتقد أن "جينات" شعوب المجتمع المنغلق ستتحمل كل هذا التغيير، لذلك يرى الجميع راحة التواجد في متحف الحياة الطبيعي.